.فصل: في الْأَحْكَامِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي آخِرِ الْآيِ مُرَاعَاةً لِلْمُنَاسَبَةِ:
أَلَّفَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ الْحَنَفِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ إِحْكَامُ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْآيِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فِيه: اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُرْتَكَبُ لَهَا أُمُورٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ. قَالَ: وَقَدْ تَتَبَّعْتُ الْأَحْكَامَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي آخِرِ الْآيِ مُرَاعَاةً لِلْمُنَاسَبَةِ، فَعَثَرْتُ مِنْهَا عَلَى نَيِّفٍ عَنِ الْأَرْبَعِينَ حُكْمًا.أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ الْمَعْمُول: إِمَّا عَلَى الْعَامِلِ، نَحْو:
{أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سَبَإٍ: 40]، قِيلَ: وَمِنْهُ:
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]، أَوْ عَلَى مَعْمُولٍ آخَرَ أَصْلُهُ التَّقْدِيمُ، نَحْو:
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23]، إِذَا أَعْرَبْنَا
{الْكُبْرَى} مَفْعُولَ
{نرِيَ}، أَوْ عَلَى الْفَاعِلِ، نَحْو:
{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [الْقَمَر: 41]، وَمِنْهُ تَقْدِيمُ خَبَرِ كَانَ عَلَى اسْمِهَا، نَحْو:
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 4].الثَّانِي: تَقْدِيمُ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الزَّمَانِ، نَحْو:
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النَّجْم: 25]، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ لَقُدِّمَتِ الْأُولَى كَقَوْلِه:
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [الْقَصَص: 70].الثَّالِثُ: تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ عَلَى الْأَفْضَلِ، نَحْو:
{بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 7]، وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ.الرَّابِعُ: تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ، نَحْو:
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].الْخَامِسُ: تَقْدِيمُ الصِّفَةِ الْمُجْمَلَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ، نَحْو:
{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الْإِسْرَاء: 13].السَّادِسُ: حَذْفُ يَاءِ الْمَنْقُوصِ الْمُعَرَّفِ، نَحْو:
{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرَّعْد: 9]،
{يَوْمَ التَّنَادِ} [غَافِرٍ: 32].السَّابِعُ: حَذْفُ يَاءِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمَجْزُومِ، نَحْو:
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الْفَجْر: 4].الثَّامِنُ: حَذْفُ يَاءِ الْإِضَافَةِ، نَحْو:
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الْقَمَر: 16]،
{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرَّعْد: 32].التَّاسِعُ: زِيَادَةُ حَرْفِ الْمَدِّ، نَحْوُ:
{الظَّنُونَا} [الْأَحْزَاب: 10]، وَ
{الرَّسُولَا} [الْأَحْزَاب: 66]، وَ
{السَّبِيلَا} [الْأَحْزَاب: 67].وَمِنْهُ إِبْقَاؤُهُ مَعَ الْجَازِمِ، نَحْو:
{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]،
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الْأَعْلَى: 6]، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ نَهْيٌ.الْعَاشِرُ: صَرْفُ مَا لَا يَنْصَرِفُ، نَحْو:
{قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا} [الْإِنْسَان: 15، 16].الْحَادِي عَشَرَ: إِيثَارُ تَذْكِيرِ اسْمِ الْجِنْسِ كَقَوْلِه:
{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20].الثَّانِي عَشَرَ: إِيثَارُ تَأْنِيثِهِ، نَحْو:
{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 7]، وَنَظِيرُ هَذَيْنِ قَوْلُهُ فِي الْقَمَرِ [5]:
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} وَفِي الْكَهْفِ [49]:
{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}.الثَّالِثَ عَشَرَ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْجَائِزَيْنِ اللَّذَيْنِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الْجِنّ: 14]، وَلَمْ يَجِئْ
{رَشْدًا} فِي السَّبْعِ، وَكَذَا:
{وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الْكَهْف: 10]؛ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ فِي السُّورَتَيْنِ مُحَرَّكَةُ الْوَسَطِ، وَقَدْ جَاءَ فِي:
{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} [الْأَعْرَاف: 146]، وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَرْجِيحُ الْفَارِسِيِّ قِرَاءَةَ التَّحْرِيكِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [الْمَسَد: 1] بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ:
{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [الْمَسَد: 3]. إِلَّا بِالْفَتْحِ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ.الرَّابِعَ عَشَرَ: إِيرَادُ الْجُمْلَةِ الَّتِي رَدَّ بِهَا مَا قَبْلَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُطَابَقَةِ فِي الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَة: 8]. وَلَمْ يُطَابِقْ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَبَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فَيَقُولُ (وَلَمْ يُؤْمِنُوا) أَوْ(مَا آمَنُوا) لِذَلِكَ.الْخَامِسَ عَشَرَ: إِيرَادُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ كَذَلِكَ نَحْوَ:
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الْعَنْكَبُوت: 3]. وَلَمْ يَقُل: الَّذِينَ كَذَبُوا.السَّادِسَ عَشَرَ: إِيرَادُ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَوْرَدَ نَظِيرَهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى نَحْوَ:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 177].السَّابِعَ عَشَرَ: إِيثَارُ أَغْرَبِ اللَّفْظَتَيْنِ نَحْوَ:
{قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النَّجْم: 22]. وَلَمْ يَقُلْ: جَائِرَةٌ
{لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} وَلَمْ يَقُلْ جَهَنَّمَ أَوِ النَّارِ.وَقَالَ فِي الْمُدَّثِّرِ [26]
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وَفِي سَأَلَ [15]
{إِنَّهَا لَظَى} وَفِي الْقَارِعَةِ [9]
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} لِمُرَاعَاةِ فَوَاصِلِ كُلِّ سُورَةٍ.الثَّامِنَ عَشَرَ: اخْتِصَاصُ كُلٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَوْضِعٍ نَحْوَ:
{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إِبْرَاهِيمَ: 52]. وَفِي سُورَةِ طه [128]
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}.التَّاسِعَ عَشَرَ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ نَحْوَ:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْل: 5].
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وَمِنْهُ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ نَحْوَ:
{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
{خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 17].الْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالْإِفْرَادِ عَنِ التَّثْنِيَةِ نَحْوَ:
{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117].الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ نَحْوَ:
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الْفُرْقَان: 74]. وَلَمْ يَقُلْ: أَئِمَّةً كَمَا قَالَ:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 73].
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [الْقَمَر: 54]. أَيْ: أَنْهَارٍ.الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالتَّثْنِيَةِ عَنِ الْإِفْرَادِ نَحْوَ:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46]. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ جَنَّةً، كَقَوْلِه:
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَات: 41]. فَثَنَّى لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، قَالَ: وَالْقَوَافِي تَحْتَمِلُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ سَائِرُ الْكَلَامِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشَّمْس: 12]. فَإِنَّهُمَا رَجُلَان: قِدَارٌ وَآخَرُ مَعَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَشْقَيَاهَا لِلْفَاصِلَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَغْلَظَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ فِي رُؤُوسِ الْآيِ زِيَادَةُ هَا السَّكْتِ أَوِ الْأَلِفِ أَوْ حَذْفُ هَمْزٍ أَوْ حَرْفٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَعَدَ بِجَنَّتَيْنِ فَنَجْعَلُهُمَا جَنَّةً وَاحِدَةً لِأَجْلِ رُؤُوسِ الْآيِ مَعَاذَ اللَّهِ، وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ يَصِفُهَا بِصِفَاتِ الِاثْنَيْنِ قَالَ:
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ثُمَّ قَالَ:
{فِيهِمَا} [الرَّحْمَن: 48، 50].وَأَمَّا ابْنُ الصَّائِغ: فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَرَادَ جَنَّاتٍ فَأَطْلَقَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ قَالَ: وَإِنَّمَا عَادَ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ.الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالْجَمْعِ عَنِ الْإِفْرَادِ نَحْوَ:
{لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} أَيْ: وَلَا خُلَّةٌ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَجَمَعَ مُرَاعَاةً لِلْفَاصِلَةِ.الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِجْرَاءُ غَيْرِ الْعَاقِلِ مَجْرَى الْعَاقِلِ نَحْوَ:
{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يُوسُفَ: 4].
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 33].السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِمَالَةُ مَا لَا يُمَالُ كَآيِ طه وَالنَّجْمِ.السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَة: كَقَدِيرٍ وَعَلِيمٍ مَعَ تَرْكِ ذَلِكَ فِي نَحْو:
{هُوَ الْقَادِرُ} [الْأَنْعَام: 65]. وَ
{عَالِمُ الْغَيْبِ} [الْأَنْعَام: 73]. وَمِنْهُ
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64].الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: إِيثَارُ بَعْضِ أَوْصَافِ الْمُبَالِغَةِ عَلَى بَعْضٍ نَحْوَ:
{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. أُوثِرَ عَلَى عَجِيبٍ لِذَلِكَ.التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوَ:
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129].الثَّلَاثُونَ: إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ نَحْوَ:
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]. وَكَذَا آيَةُ الْكَهْفِ.الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وُقُوعُ (مَفْعُولٍ) مَوْقِعَ (فَاعِلٍ) كَقَوْلِه:
{حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاء: 45].
{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مَرْيَمَ: 61]. أَيْ: سَائِرًا وَآتِيًا.الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وُقُوعُ فَاعِلٍ مَوْقِعَ مَفْعُولٍ نَحْوَ:
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 21].
{مَاءٍ دَافِقٍ} [الطَّارِق: 6].الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ نَحْوَ:
{أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الْأَعْلَى: 4، 5]. إِنْ أَعْرَبَ أَحْوَى صِفَةَ الْمَرْعَى أَيْ: حَالًا.الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إِيقَاعُ حَرْفٍ مَكَانَ غَيْرِهِ نَحْوَ:
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَة: 5]. وَالْأَصْلُ إِلَيْهَا.الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: تَأْخِيرُ الْوَصْفِ الْأَبْلَغِ عَنْ الْأَبْلَغِ مِنْهُ:
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَة: 128]. لِأَنَّ الرَّأْفَةَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَةِ.السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: حَذْفُ الْفَاعِلِ وَنِيَابَةُ الْمَفْعُولِ نَحْوَ:
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [اللَّيْل: 19].السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إِثْبَاتُ هَاءِ السَّكْتِ نَحْوَ: مَالِيَهْ [الْحَاقَّة: 28]. سُلْطَانِيَهْ [الْحَاقَّة: 29]. مَا هِيَهْ [الْقَارِعَة: 10].الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَجْرُورَاتِ نَحْوَ:
{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الْإِسْرَاء: 69]. فَإِنَّ الْأَحْسَنَ الْفَصْلُ بَيْنَهَا، إِلَّا أَنَّ مُرَاعَاةَ الْفَاصِلَةِ اقْتَضَتْ عَدَمَهُ وَتَأْخِيرَ تَبِيعًا.التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمُضِيِّ إِلَى صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ نَحْوَ:
{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الْبَقَرَة: 87]. وَالْأَصْلُ قَتَلْتُمْ.الْأَرْبَعُونَ: تَغْيِيرُ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ نَحْوَ:
{طُورِ سِينِينَ} [التِّين: 2]. وَالْأَصْلُ سِينَا.تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الصَّائِغ: لَا يَمْتَنِعُ فِي تَوْجِيهِ الْخُرُوجِ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أُمُورٌ أُخْرَى مَعَ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَر:
«لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ».
.فصل: في أَقْسَامِ الْفَوَاصِلِ:
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: لَا تَخْرُجُ فَوَاصِلُ الْقُرْآنِ وَأَقْسَامُهَا عَنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْكِينِ، وَالتَّصْدِيرِ، وَالتَّوْشِيحِ، وَالْإِيغَالِ.
.التَّمْكِينُ:
فَالتَّمْكِينُ وَيُسَمَّى ائْتِلَافُ الْقَافِيَة: أَنْ يُمَهِّدَ النَّاثِرُ لِلْقَرِينَةِ أَوِ الشَّاعِرُ لِلْقَافِيَةِ تَمْهِيدًا تَأْتِي بِهِ الْقَافِيَةُ أَوِ الْقَرِينَةُ مُتَمَكِّنَةً فِي مَكَانِهَا، مُسْتَقِرَّةً فِي قَرَارِهَا مُطْمَئِنَةً فِي مَوَاضِعِهَا غَيْرَ نَافِرَةٍ وَلَا قَلِقَةٍ، مُتَعَلِّقًا مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ تَعَلُّقًا تَامًّا، بِحَيْثُ لَوْ طُرِحَتْ لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى وَاضْطَرَبَ الْفَهْمُ، وَبِحَيْثُ لَوْ سُكِتَ عَنْهَا كَمَّلَهُ السَّامِعُ بِطَبْعِهِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ
{يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} الْآيَةَ [هُودٍ: 87] فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْعِبَادَةِ وَتَلَاهُ ذِكْرُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْحِلْمَ يُنَاسِبُ الْعِبَادَاتِ، وَالرُّشْدَ يُنَاسِبُ الْأَمْوَالَ.وَقَوْلُهُ:
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السَّجْدَة: 26].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} إِلَى قَوْلِه:
{أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السَّجْدَة: 27]. فَأَتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِـ:
{يَهْدِ لَهُمْ} وَخَتَمَهَا بِـ يَسْمَعُونَ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ فِيهَا مَسْمُوعَةٌ وَهِيَ أَخْبَارُ الْقُرُونِ.وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ يَرَوْا وَخَتَمَهَا بِـ يُبْصِرُونَ لِأَنَّهَا مَرْئِيَّةٌ.وَقوله:
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَام: 103]. فَإِنَّ اللَّطِيفَ يُنَاسِبُ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَالْخَبِيرَ يُنَاسِبُ مَا يُدْرِكُهُ.وَقَوْلُهُ:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْلِه:
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 14]. فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْفَاصِلَةِ التَّمْكِينَ التَّامَّ مِنْ فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ الْمُنَاسِبَ لِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ بَادَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ حِينَ نَزَلَ أَوَّلُ الْآيَةِ إِلَى خَتْمِهَا بِهَا، قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ آخِرَهَا، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
«أَمْلَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِهَا خُتِمَتْ».وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ:
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [الْبَقَرَة: 209].
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَلَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ، فَلَا يَقُولُ كَذَا، الْحَكِيمُ لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عَلَيْهِ.تَنْبِيهَاتٌ:الْأَوَّلُ: قَدْ تَجْتَمِعُ فَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيُخَالَفُ بَيْنَهَا فِي آيَاتِ الْقُرْآن: كَأَوَائِلِ النَّحْلِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَفْلَاكِ فَقَالَ:
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [النَّحْل: 3]. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ ثُمَّ عَجَائِبَ النَّبَاتِ فَقَالَ:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْل: 10، 11]. فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ التَّفَكُّرَ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحُدُوثِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ النَّبَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَلَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ طَبَائِعُ الْفُصُولِ وَحَرَكَاتُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، كَانَ مَجَالُ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَغَيُّرَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ كَيْفَ حَصَلَتْ فَإِنْ كَانَ حُصُولُهَا بِسَبَبِ أَفْلَاكٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ فَذَاكَ إِقْرَارٌ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقوله:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النَّحْل: 12]. فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَقْلَ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْلَمْ أَنَّ التَّسَلْسُلَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْحَرَكَاتِ إِلَى حَرَكَةٍ يَكُونُ مُوجِدُهَا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَهُوَ الْإِلَهُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ.وَالثَّانِي: أَنَّ نِسْبَةَ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى الْوَرَقَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْوَرْدِ أَحَدَ وَجْهَيْهَا فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَالْآخَرَ فِي غَايَةِ السَّوَادِ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْآثَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله:
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النَّحْل: 13]. كَأَنَّهُ قِيلَ اذْكُرْ مَا تَرَسَّخَ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالذَّاتِ وَالطَّبْعِ لَا يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ، فَإِذَا نَظَرْتَ حُصُولَ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ، بَلِ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ فَلِهَذَا جَعَلَ مَقْطَعَ الْآيَةِ التَّذَكُّرَ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْأُولَى خُتِمَتْ بِقَوْلِه:
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِه:
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وَالثَّالِثَةَ بِقَوْلِه:
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.لِأَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى تَرْكِهَا عَدَمُ الْعَقْلِ الْغَالِبِ عَلَى الْهَوَى، لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ لِعَدَمِ اسْتِكْمَالِ الْعَقْلِ الدَّالِّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لِسَبْقِ إِحْسَانِهِمَا إِلَى الْوَلَدِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ بِالْوَأْدِ مِنَ الْإِمْلَاقِ مَعَ وُجُودِ الرَّازِقِ الْحَيِّ الْكَرِيمِ، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُ الْفَوَاحِشِ لَا يَقْتَضِيهِ عَقْلٌ، وَكَذَا قَتْلُ النَّفْسِ لِغَيْظٍ أَوْ غَضَبٍ فِي الْقَاتِلِ، فَحَسُنَ بَعْدَ ذَلِكَ
{يَعْقِلُونَ} .وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَعَلُّقُهَا بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ أَيْتَامًا يَخْلُفُهُمْ مِنْ بَعْدِهِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُعَامِلَ أَيْتَامَ غَيْرِهِ إِلَّا بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ أَيْتَامُهُ. وَمَنْ يَكِيلُ أَوْ يَزِنُ أَوْ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَهُ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَانَةٌ، وَلَا بَخْسٌ، وَكَذَا مَنْ وَعَدَ لَوْ وُعِدَ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يُخْلَفَ، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ عَامَلَ النَّاسَ لِيُعَامِلُوهُ بِمِثْلِهِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَفْلَةٍ عَنْ تَدَبُّرِ ذَلِكَ وَتَأَمُّلِهِ، فَذَلِكَ نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقوله:
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: لِأَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ شَرَائِعِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ مُؤَدٍّ إِلَى غَضَبِهِ وَإِلَى عِقَابِهِ فَحَسُنَ
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أَيْ: عِقَابَ اللَّهِ بِسَبَبِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ خَتَمَ الْأُولَى بِقوله:
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وَالثَّانِيَةَ بِقوله:
{لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وَالثَّالِثَةَ بِقوله:
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَذَلِكَ لِأَنَّ حِسَابَ النُّجُومِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهَا يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِـ يَعْلَمُونَ، وَإِنْشَاءَ الْخَلَائِقِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَنَقْلَهُمْ مِنْ صُلْبٍ إِلَى رَحِمٍ ثُمَّ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى حَيَاةٍ وَمَوْتٍ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ وَالْفِكْرُ فِيهِ أَدَقُّ فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِـ يَفْقَهُونَ لِأَنَّ الْفِقْهَ فَهْمُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ.وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَقْوَاتِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ، نَاسَبَ خَتْمَهُ بِالْإِيمَانِ الدَّاعِي إِلَى شُكْرِهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الْحَاقَّة: 41، 42]. حَيْثُ خَتَمَ الْأُولَى بِتُؤْمِنُونَ وَالثَّانِيَةَ بِتَذَكَّرُونَ.وَوَجْهُهُ: أَنَّ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ لِنَظْمِ الشِّعْرِ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: شِعْرٌ، كُفْرٌ وَعِنَادٌ مَحْضٌ، فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِقَوْلِه:
{قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِنَظْمِ الْكُهَّانِ وَأَلْفَاظِ السَّجْعِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَثْرٌ فَلَيْسَتْ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي وُضُوحِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ كَمُخَالَفَتِهِ الشِّعْرَ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِتَدَبُّرِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَدَائِعِ وَالْمَعَانِي الْأَنِيقَةِ، فَحَسُنَ خَتْمُهُ بِقَوْلِه:
{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافُ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَاحِدٌ، فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [34]:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [18]:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.قَالَ ابْنُ الْمُنِير: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا حَصَلَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ فَأَنْتَ آخِذُهَا وَأَنَا مُعْطِيهَا، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أَخْذِهَا وَصْفَان: كَوْنُكَ ظَلُومًا وَكَوْنُكَ كَفَّارًا: يَعْنِي لِعَدَمِ وَفَائِكَ بِشُكْرِهَا، وَلِي عِنْدَ إِعْطَائِهَا وَصْفَان: وَهُمَا أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، أُقَابِلُ ظُلْمَكَ بِغُفْرَانِي، وَكُفْرَكَ بِرَحْمَتِي، فَلَا أُقَابِلُ تَقْصِيرَكَ إِلَّا بِالتَّوْقِيرِ، وَلَا أُجَازِي جَفَاكَ إِلَّا بِالْوَفَاءِ.وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خَصَّ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ بِوَصْفِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَسُورَةَ النَّحْلِ بِوَصْفِ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي مَسَاقِ وَصْفِ الْإِنْسَانِ، وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي مَسَاقِ صِفَاتِ اللَّهِ وَإِثْبَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ.وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [15]:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وَفِي فُصِّلَتْ [46] خَتَمَ بِقَوْلِه:
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الْجَاثِيَة: 14]. فَنَاسَبَ الْخِتَامَ بِفَاصِلَةِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَصْفَهُمْ بِإِنْكَارِهِ.وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَالْخِتَامُ بِمَا فِيهَا مُنَاسِبٌ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا.وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [48].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} ثُمَّ أَعَادَهَا وَخَتَمَ بِقوله:
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاء: 116]. وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِهِ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَلَا كِتَابَ لَهُمْ وَضَلَالُهُمْ أَشَدُّ.وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي الْمَائِدَةِ [44]:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ثُمَّ أَعَادَهَا فَقَالَ:
{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْمَائِدَة: 75]. ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة:
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْمَائِدَة: 74]. وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى.وَقِيلَ: الْأُولَى فِيمَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالثَّانِيَةُ فِيمَنْ خَالَفَ مَعَ عِلْمِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَالثَّالِثَةُ فِيمَنْ خَالَفَهُ جَاهِلًا.وَقِيلَ: الْكَافِرُ وَالظَّالِمُ وَالْفَاسِقُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُفْرُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَاجْتِنَابِ صُورَةِ التَّكْرَارِ.وَعَكْسُ هَذَا اتِّفَاقُ الْفَاصِلَتَيْنِ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ مُخْتَلِفٌ، فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [58]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَى قوله:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثُمَّ قَالَ:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النُّور: 59].التَّنْبِيهُ الثَّانِي: مِنْ مُشْكِلَاتِ الْفَوَاصِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَة: 118]. فَإِنَّ قوله:
{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْفَاصِلَةُ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ وَكَذَا نُقِلَتْ عَنْ مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ شَنْبُوذَ.وَذُكِرَ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فَهُوَ الْعَزِيزُ: أَي: الْغَالِبُ وَالْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ الْحِكْمَةِ عَلَى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَكَانَ فِي الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ احْتِرَاسٌ حَسَنٌ أَيْ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْكَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، وَالْحِكْمَةُ فِيمَا فَعَلْتَهُ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [71].
{أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [5].
{وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَفِي غَافِرٍ [8].
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} إِلَى قَوْلِه:
{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَفِي النُّورِ [10].
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فَإِنَّ بَادِئَ الرَّأْيِ يَقْتَضِي: تَوَّابٌ رَحِيمٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوْبَة: لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ إِشَارَةً إِلَى فَائِدَةِ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ وَحِكْمَتِهِ، وَهِيَ السِّتْرُ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ.وَمِنْ خَفِيِّ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: [29].
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَفِي آلِ عِمْرَانَ [29].
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الذِّهْنِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْخَتْمُ بِالْقُدْرَةِ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْخَتْمُ بِالْعِلْمِ.وَالْجَوَابُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا عَلَى حَسَبِ حَاجَاتِ أَهْلِهَا وَمَنَافِعِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ خَلْقًا مُسْتَوِيًّا مُحْكَمًا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَالْخَالِقُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَهُ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا، مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، نَاسَبَ خَتْمَهَا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَآيَةَ آلِ عِمْرَانَ لَمَّا كَانَتْ فِي سِيَاقِ الْوَعِيدِ عَلَى مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالْعِلْمِ فِيهَا كِنَايَةً عَنِ الْمُجَازَاةِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ نَاسَبَ خَتْمَهَا بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الْإِسْرَاء: 44]. فَالْخَتْمُ بِالْحِلْمِ وَالْمَغْفِرَةِ عَقِبَ تَسَابِيحِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَذُكِرَ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تُسَبِّحُ وَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهَا وَأَنْتُمْ تَعْصُونَ، خَتَمَ بِهِ مُرَاعَاةً لِلْمُقَدَّرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْعِصْيَانُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث:
«لَوْلَا بَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا، وَلَرُصَّ رَصًّا».وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ حَلِيمًا عَنْ تَفْرِيطِ الْمُسَبِّحِينَ غَفُورًا لِذُنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: حَلِيمًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ التَّسْبِيحَ، بِإِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، لِيَعْرِفُوا حَقَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا أَوْدَعَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُوجِبُ تَنْزِيهَهُ.التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ فِي الْفَوَاصِلِ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ فِي سُورَةِ النُّورِ
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَة: 186]. وَقِيلَ: فِيهِ تَعْرِيضٌ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ رَمَضَانَ: أَيْ: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا.